ويذكر عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (كلم المجذوم، وبيك وبينه قيد رمح أو رمحين).
الجذام: علة رديئة تحدث من انتشار المرة السوداء في البدن كله، فيفسد مزاج الأعضاء وهيئتها وشكلها، وربما فسد في آخره اتصالها حتى تتأكل الأعضاء وتسقط، ويسمى داء الأسد. وفي هذه التسمية ثلاثة أقوال للأطباء: أحدها: أنها لكثرة ما تعتري الأسد.
والثاني: لأن هذه العلة تجهم وجه صاحبها وتجعله في سحنة الأسد.
والثالث: أنه يفترس من يقربه، أو يدنو منه بدائه افتراس الأسد.
وهذه العلة عند الأطباء من العلل المعدية المتوارثة، ومقارب المجذوم، وصاحب السل يسقم برائحته، فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكمال شفقته على الأمة، ونصحه لهم نهاهم عن الأسباب التي تعرضهم لوصول العيب والفساد إلى أجسامهم وقلوبهم، ولا ريب أنه قد يكون في البدن تهيؤ واستعداد كامن لقبول هذا الداء، وقد تكون الطبيعة سريعة الانفعال قابلة للاكتساب من أبدان من تجاوره وتخالطه، فإنها نقالة، وقد يكون خوفها من ذلك ووهمها من أكبر أسباب إصابة تلك العلة لها، فإن الوهم فعال مستول على القوى والطبائع، وقد تصل رائحة العليل إلى الصحيح فتسقمه، وهذا معاين في بعض الأمراض، والرائحة أحد أسباب العدوى، ومع هذا كله فلا بد من وجود استعداد البدن وقبوله لذلك الداء، وقد تزوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ امرأة، فلما أراد الدخول بها، وجد بكشحها بياضًا، فقال: (الحقي بأهلك). وقد ظن طائفة من الناس أن هذه الأحاديث معارضة بأحاديث أخر تبطلها وتناقضها، فمنها: ما رواه الترمذي، من حديث جابر، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخذ بيد رجل مجذوم، فأدخلها معه في القصعة، وقال: (كل بسم الله ثقة بالله، وتوكلًا عليه)، ورواه ابن ماجه.
وبما ثبت في الصحيح، عن أبي هريرة، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: (لا عدوى ولا طيرة).
ونحن نقول: لا تعارض بحمد الله بين أحاديثه الصحيحة. فإذا وقع التعارض، فإما أن يكون أحد الحديثين ليس من كلامه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد غلط فيه بعض الرواة مع كونه ثقة ثبتًا، فالثقة يغلظ، أو يكون أحد الحديثين ناسخًا للآخر إذا كان مما يقبل النسخ، أو يكون التعارض في فهم السامع، لا في نفس كلامه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلا بد من وجه من هذه الوجوه الثلاثة.
وأما حديثان صحيحان صريحان متناقضان من كل وجه، ليس أحدهما ناسخًا للآخر، فهذا لا يوجد أصلًا، ومعاذ الله أن يوجد في كلام الصادق المصدوق الذي لا يخرج من بين شفتيه إلا الحق، والآفة من التقصير في معرفة المنقول، والتمييز بين صحيحه ومعلوله، أو من القصور في فهم مراده ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحمل كلامه على غير ما عناه به، أو منهما معًا، ومن ها هنا وقع من الإختلاف والفساد ما وقع، وبالله التوفيق.
قال ابن قتيبة في كتاب اختلاف الحديث له حكاية عن أعداء الحديث وأهله، قالوا: حديثان متناقضان رويتم عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: (لا عدوى ولا طيرة). وقيل له: إن النقبة تقع بمشفر البعير، فيجرب لذلك الإبل. قال: (فما أعدى الأول)، ثم رويتم (لا يورد ذو عاهة على مصح، وفر من المجدوم فرارك من الأسد)، وأتاه رجل مجذوم ليبايعه بيعة الإسلام، فأرسل إليه البيعة، وأمره بالانصراف، ولم يأذن له، وقال: (الشؤم في المرأة والدار والدابة). قالوا: وهذا كله مختلف لا يشبه بعضه بعضًا.
قال أبو محمد: ونحن نقول: إنه ليس في هذا اختلاف، ولكل معنى منها وقت وموضع، فإذا وضع موضعه زال الاختلاف.
العدوى جنسان: أحدهما: عدوى الجذام، فإن المجذوم تشتد رائحته حتى يسقم من أطال مجالسته ومحادثته، وكذلك المرأة تكون تحت المجذوم، فتضاجعه في شعار واحد، فيوصل إليها الأذى، وربما جذمت، وكذلك ولده ينزعون في الكبر إليه، وكذلك من كان به سل ودق ونقب. والأطباء تأمر أن لا يجالس المسلول ولا المجذوم، ولا يريدون بذلك معنى العدوى، وإنما يريدون به معنى تغير الرائحة، وأنها قد تسقم من أطال اشتمامها، والأطباء أبعد الناس عن الإيمان بيمن وشؤم، وكذلك النقبة تكون بالبعير ـ وهو جرب رطب ـ فإذا خالط الإبل أو حاكها، وأوى في مباركها، وصل إليها بالماء الذي يسيل منه، وبالنطف نحو ما به، فهذا هو المعنى الذي قال فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (لا يورد ذو عاهة على مصح)، كره أن يخالط المعيوه الصحيح، لئلا يناله من نطفه وحكته نحو مما به.
قال: وأما الجنس الآخر من العدوى، فهو الطاعون ينزل ببلد، فيخرج منه خوف العدوى، وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إذا وقع ببلد، وأنتم به، فلا تخرجوا منه، وإذا كان ببلد، فلا تدخلوه). يريد بقوله: لا تخرجوا من البلد إذا كان فيه كأنكم تظنون أن الفرار من قدر الله ينجيكم من الله، ويريد إذا كان ببلد، فلا تدخلوه، أي: مقامكم في الموضع الذي لا طاعون فيه أسكن لقلوبكم، وأطيب لعيشكم، ومن ذلك المرأة تعرف بالشؤم أو الدار، فينال الرجل مكروه أو جائحة، فيقول: أعدتني بشؤمها، فهذا هو العدوى الذي قال فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (لا عدوى).
وقالت فرقة أخرى: بل الأمر باجتناب المجذوم والفرار منه على الاستحباب، والاختيار، والإرشاد، وأما الأكل معه، ففعله لبيان الجواز، وأن هذا ليس بحرام.
وقالت فرقة أخرى: بل الخطاب بهذين الخطابين جزئي لا كلي، فكل واحد خاطبه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما يليق بحاله، فبعض الناس يكون قوي الإيمان، قوي التوكل تدفع قوة توكله قوة العدوى، كما تدفع قوة الطبيعة قوة العلة فتبطلها، وبعض الناس لا يقوى على ذلك، فخاطبه بالإحتياط والأخذ بالتحفظ، وكذلك هو ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعل الحالتين معًا، لتقتدي به الأمة فيهما، فيأخذ من قوي من أمته بطريقة التوكل والقوة والثقة بالله، ويأخذ من ضعف منهم بطريقة التحفظ والاحتياط، وهما طريقان صحيحان. أحدهما: للمؤمن القوي، والآخر للمؤمن الضعيف، فتكون لكل واحد من الطائفتين حجة وقدوة بحسب حالهم وما يناسبهم، وهذا كما أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كوى، وأثنى على تارك الكي، وقرن تركه بالتوكل، وترك الطيرة، ولهذا نظائر كثيرة، وهذه طريقة لطيفة حسنة جدًا من أعطاها حقها، ورزق فقه نفسه فيها، أزالت عنه تعارضًا كثيرًا يظنه بالسنة الصحيحة.
وذهبت فرقة أخرى إلى أن الأمر بالفرار منه، ومجانبته لأمر طبيعي، وهو انتقال الداء منه بواسطة الملامسة والمخالطة والرائحة إلى الصحيح، وهذا يكون مع تكرير المخالطة والملامسة له، وأما أكله معه مقدارًا يسيرًا من الزمان لمصلحة راجحة، فلا بأس به، ولا تحصل العدوى من مرة واحدة ولحظة واحدة، فنهى سدًا للذريعة، وحماية للصحة، وخالطه مخالطة ما للحاجة والمصلحة، فلا تعارض بين الأمرين.
وقالت طائفة أخرى: يجوز أن يكون هذا المجذوم الذي أكل معه به من الجذام أمر يسير لا يعدي مثله، وليس الجذمى كلهم سواء، ولا العدوى حاصلة من جميعهم، بل منهم من لا تضر مخالطته، ولا تعدي، وهو من أصابه من ذلك شيء يسير، ثم وقف واستمر على حاله، ولم يعد بقية جسمه، فهو أن لا يعدي غيره أولى وأحرى.
وقالت فرقة أخرى: إن الجاهلية كانت تعتقد أن الأمراض المعدية تعدي بطبعها من غير إضافة إلى الله سبحانه، فأبطل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اعتقادهم ذلك، وأكل مع المجذوم ليبين لهم أن الله سبحانه هو الذي يمرض ويشفي، ونهى عن القرب منه ليتبين لهم أن هذا من الأسباب التي جعلها الله مفضية إلى مسبباتها، ففي نهيه إثبات الأسباب، وفي فعله بيان أنها لا تستقل بشيء، بل الرب سبحانه إن شاء سلبها قواها، فلا تؤثر شيئًا، وإن شاء أبقى عليها قواها فأثرت.
وقالت فرقة أخرى: بل هذه الأحاديث فيها الناسخ والمنسوخ، فينظر في تاريخها، فإن علم المتأخر منها، حكم بأنه الناسخ، وإلا توقفنا فيها.
وقالت فرقة أخرى: بل بعضها محفوظ، وبعضها غير محفوظ، وتكلمت في حديث لا عدوى، وقالت: قد كان أبو هريرة يرويه أولًا، ثم شك فيه فتركه، وراجعوه فيه، وقالوا: سمعناك تحدث به، فأبى أن يحدث به.
قال أبو سلمة: فلا أدري، أنسي أبو هريرة، أم نسخ أحد الحديثين الآخر؟
وأما حديث جابر: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخذ بيد مجذوم، فأدخلها معه في القصعة، فحديث لا يثبت ولا يصح، وغاية ما قال فيه الترمذي: إنه غريب، لم يصححه ولم يحسنه. وقد قال شعبة وغيره: اتقوا هذه الغرائب. قال الترمذي: ويروى هذا من فعل عمر، وهو أثبت، فهذا شأن هذين الحديثين اللذين عورض بهما أحاديث النهي، أحدهما: رجع أبو هريرة عن التحديث به وأنكره، والثاني: لا يصح عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والله أعلم، وقد أشبعنا الكلام في هذه المسألة في كتاب المفتاح بأطول من هذا، وبالله التوفيق.
من هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعل التداوي في نفسه
والأمر به لمن أصابه مرض من أهله وأصحابه، ولكن لم يكن من هديه ولا هدي أصحابه استعمال هذه الأدوية المركبة التي تسمى أقرباذين، بل كان غالب أدويتهم بالمفردات، وربما أضافوا إلى المفرد ما يعاونه، أو يكسر سورته، وهذا غالب طب الأمم على اختلاف أجناسها من العرب والترك، وأهل البوادي قاطبة، وإنما عني بالمركبات الروم واليونانيون، وأكثر طب الهند بالمفردات. وقد اتفق الأطباء على أنه متى أمكن التداوي بالغذاء لا يعدل عنه إلى الدواء، ومتى أمكن بالبسيط لا يعدل عنه إلى المركب.. قالوا: وكل داء قدر على دفعه بالأغذية والحمية، لم يحاول دفعه بالأدوية.
قالوا: ولا ينبغي للطبيب أن يولع بسقي الأدوية، فإن الدواء إذا لم يجد في البدن داء يحلله، أو وجد داء لا يوافقه، أو وجد ما يوافقه فزادت كميته عليه، أو كيفيته، تشبث بالصحة، وعبث بها. وأرباب التجارب من الأطباء طبهم بالمفردات غالبًا، وهم أحد فرق الطب الثلاث.
والتحقيق في ذلك أن الأدوية من جنس الأغذية، فالأمة والطائفة التي غالب أغذيتها المفردات، أمراضها قليلة جدًا، وطبها بالمفردات، وأهل المدن الذين غلبت عليهم الأغذية المركبة يحتاجون إلى الأدوية المركبة، وسبب ذلك أن أمراضهم في الغالب مركبة، فالأدوية المركبة أنفع لها، وأمراض أهل البوادي والصحاري مفردة، فيكفي في مداواتها الأدوية المفردة، فهذا برهان بحسب الصناعة الطبية.
ونحن نقول: إن ها هنا أمرًا آخر، نسبة طب الأطباء إليه كنسبة طب الطرقية والعجائز إلى طبهم، وقد اعترف به حذاقهم وأئمتهم، فإن ما عندهم من العلم بالطب منهم من يقول: هو قياس. ومنهم من يقول: هو تجربة. ومنهم من يقول: هو إلهامات، ومنامات، وحدس صائب. ومنهم من يقول: أخذ كثير منه من الحيوانات البهيمية، كما نشاهد السنانير إذا أكلت ذوات السموم تعمد إلى السراج، فتلغ في الزيت تتداوى به، وكما رؤيت الحيات إذا خرجت من بطون الأرض، وقد عشيت أبصارها تأتي إلى ورق الرازيانج، فتمر عيونها عليها. وكما عهد من الطير الذي يحتقن بماء البحر عند انحباس طبعه، وأمثال ذلك مما ذكر في مبادئ الطب.
وأين يقع هذا وأمثاله من الوحي الذي يوحيه الله إلى رسوله بما ينفعه ويضره، فنسبة ما عندهم من الطب إلى هذا الوحي كنسبة ما عندهم من العلوم إلى ما جاءت به الأنبياء، بل ها هنا من الأدوية التي تشفي من الأمراض ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم، وأقيستهم من الأدوية القلبية، والروحانية، وقوة القلب، واعتماده على الله، والتوكل عليه، والإلتجاء إليه، والإنطراح والإنكسار بين يديه، والتذلل له، والصدقة، والدعاء، والتوبة، والاستغفار، والإحسان إلى الخلق، وإغاثة الملهوف، والتفريج عن المكروب، فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها، فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لا يصل إليه علم أعلم الأطباء، ولا تجربته، ولا قياسه. وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أمورًا كثيرة، ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية، بل تصير الأدوية الحسية عندها بمنزلة أدوية الطرقية عند الأطباء، وهذا جار على قانون الحكمة الإلهية ليس خارجًا عنها، ولكن الأسباب متنوعة فإن القلب متى اتصل برب العالمين، وخالق الداء والدواء، ومدبر الطبيعة ومصرفها على ما يشاء كانت له أدوية أخرى غير الأدوية التي يعانيها القلب البعيد منه المعرض عنه، وقد علم أن الأرواح متى قويت، وقويت النفس والطبيعة تعاونا على دفع الداء وقهره، فكيف ينكر لمن قويت طبيعته ونفسه، وفرحت بقربها من بارئها، وأنسها به، وحبها له، وتنعمها بذكره، وانصراف قواها كلها إليه، وجمعها عليه، واستعانتها به، وتوكلها عليه، أن يكون ذلك لها من أكبر الأدوية، وأن توجب لها هذه القوة دفع الألم بالكلية، ولا ينكر هذا إلا أجهل الناس، وأغلظهم حجابًا، وأكثفهم نفسًا، وأبعدهم عن الله وعن حقيقة الإنسانية، وسنذكر إن شاء الله السبب الذي به أزالت قراءة الفاتحة داء اللدغة عن اللديغ التي رقي بها، فقام حتى كأن ما به قلبة.
فهذان نوعان من الطب النبوي، نحن بحول الله نتكلم عليهما بحسب الجهد والطاقة، ومبلغ علومنا القاصرة، ومعارفنا المتلاشية جدًا، وبضاعتنا المزجاة، ولكنا نستوهب من بيده الخير كله، ونستمد من فضله، فإنه العزيز الوهاب.
في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المنع من التداوي بالمحرمات
روى أبو داود في سننه من حديث أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تداووا بالمحرم). وذكر البخاري في صحيحه عن ابن مسعود: إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم.
وفي السنن : عن أبي هريرة، قال: نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الدواء الخبيث.
وفي صحيح مسلم عن طارق بن سويد الجعفي، أنه سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الخمر، فنهاه، أو كره أن يصنعها، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقال: (إنه ليس بدواء، ولكنه داء ).
وفي السنن أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ سئل عن الخمر يجعل في الدواء، فقال: (إنها داء وليست بالدواء)، رواه أبو داود، والترمذي.
وفي صحيح مسلم عن طارق بن سويد الحضرمي، قال: (قلت: يا رسول الله ! إن بأرضنا أعنابًا نعتصرها فنشرب منها، قال: لا فراجعته، قلت: إنا تستشفي للمريض، قال: إن ذلك ليس بشفاء ولكنه داء).
وفي سنن النسائي أن طبيبًا ذكر ضفدعًا في دواء عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنهاه عن قتلها.
ويذكر عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: (من تداوى بالخمر، فلا شفاه الله).
المعالجة بالمحرمات قبيحة عقلًا وشرعًا، أما الشرع فما ذكرنا من هذه الأحاديث وغيرها، وأما العقل، فهو أن الله سبحانه إنما حرمه لخبثه، فإنه لم يحرم على هذه الأمة طيبًا عقوبة لها، كما حرمه على بني إسرائيل بقوله: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} [ النساء: 160]، وإنما حرم على هذه الأمة ما حرم لخبثه، ولحريمه له حمية لهم، وصيانة عن تناوله،
فلا يناسب أن يطلب به الشفاء من الأسقام والعلل، فإنه وإن أثر في إزالتها، لكنه يعقب سقمًا أعظم منه في القلب بقوة الخبث الذي فيه، فيكون المداوى به قد سعى في إزالة سقم البدن بسقم القلب.
وأيضًا فإن تحريمه يقتضي تجنبه والبعد عنه بكل طريق، وفي اتخاذه دواء حض على الترغيب فيه وملابسته، وهذا ضد مقصود الشارع، وأيضًا فإنه داء كما نص عليه صاحب الشريعة، فلا يجوز أن يتخذ دواء.
وأيضًا فإنه يكسب الطبيعة والروح صفة الخبث، لأن الطبيعة تنفعل عن كيفية الدواء انفعالًا بينًا، فإذا كانت كيفيته خبيثة، اكتسبت الطبيعة منه خبثًا، فكيف إذا كان خبيثًا في ذاته، ولهذا حرم الله سبحانه على عباده الأغذية والأشربة والملابس الخبيثة، لما تكسب النفس من هيئة الخبث وصفته.
وأيضًا فإن في إباحة التداوي به، ولا سيما إذا كانت النفوس تميل إليه ذريعة إلى تناوله للشهوة واللذة، لا سيما إذا عرفت النفوس أنه نافع لها مزيل لأسقامها جالب لشفائها، فهذا أحب شيء إليها، والشارع سد الذريعة إلى تناوله بكل ممكن، ولا ريب أن بين سد الذريعة إلى تناوله، وفتح الذريعة إلى تأوله تناقضًا وتعارضًا.
وأيضًا فإن في هذا الدواء المحرم من الأدواء ما يزيد على ما يظن فيه من الشفاء، ولنفرض الكلام في أم الخبائث التي ما جعل الله لنا فيها شفاء قط، فإنها شديدة المضرة بالدماغ الذي هو مركز العقل عند الأطباء، وكثير من الفقهاء والمتكلمين. قال أبقراط في أثناء كلامه في الأمراض الحادة: ضرر الخمرة بالرأس شديد. لأنه يسرع الارتفاع إليه. ويرتفع بارتفاعه الأخلاط التي تعلو في البدن، وهو كذلك يضر بالذهن.
وقال صاحب الكامل : إن خاصية الشراب الإضرار بالدماغ والعصب. وأما غيره من الأدوية المحرمة فنوعان:
أحدهما: تعافه النفس ولا تنبعث لمساعدته الطبيعة على دفع المرض به كالسموم، ولحوم الأفاعي وغيرها من المستقذرات، فيبقى كلًا على الطبيعة مثقلًا لها، فيصير حينئذ داء لا دواء.
والثاني: ما لا تعافه النفس كالشراب الذي تستعمله الحوامل مثلًا، فهذا ضرره أكثر من نفعه، والعقل يقضي بتحريم ذلك، فالعقل والفطرة مطابق للشرع في ذلك.
وها هنا سر لطيف في كون المحرمات لا يستشفى بها، فإن شرط الشفاء بالدواء تلقيه بالقبول، واعتقاد منفعته، وما جعل الله فيه من بركة الشفاء، فإن النافع هو المبارك، وأنفع الأشياء وأبركها، المبارك من الناس أينما كان هو الذي ينتفع به حيث حل، ومعلوم أن اعتقاد المسلم تحريم هذه العين مما يحول بينه وبين اعتقاد بركتها ومنفعتها، وبين حسن ظنه بها، وتلقيه طبعه لها بالقبول، بل كلما كان العبد أعظم إيمانًا، كان أكره لها وأسوأ اعتقادًا فيها، وطبعه أكره شيء لها، فإذا تناولها في هذه الحال، كانت داء له لا دواء إلا أن يزول اعتقاد الخبث فيها، وسوء الظن والكراهة لها بالمحبة، وهذا ينافي الإيمان، فلا يتناولها المؤمن قط إلا على وجه داء، والله أعلم.